وقفة في مقام الصلاة آثار وتأملات
بعيدًا عن لغة الحروب -اوكرانيا- وما يصاحبها من خوف واضطراب وتبعات نفسية على النفس البشرية ارتأيت هاته الوقفة أو الخاطرة التأملية حول مقام الصلاة الجلل الذي أتناوله من جانب الحكمة والحاجة، لا من جانب الوجوب الشرعي فذاك جانب له أهله.
أردت استكشاف
التأمل ذات مرة عند رؤيتي شهادات أناس - لا صلة لهم بالدين - كيف استشفوا به من
عللهم المستعصية ، ورأيت حماسة غريبة ممزوجة بدموع الحب والفرح تنطق بماعايشوه في
تجاربهم مع د جو ديسبانزا فلامست قلبي تلك الكثافة الشعورية المحملة في كلماتهم
ووحدت خطابهم . تلبس علي الأمر واستغربت كيف استطاعوا الوصول لذاك المستوى من
التركيز واليقين وليست لديهم مرجعية دينية كالتي لدينا، تهدينا جلالة الاتصال
بمصدر النور والجمال وكل الخير في الوجود ...
عمل الفضول أفاعيله في نفسي ،
ووجهت فكري لخبر ماهية هذا التأمل في بطون ما توفر لي من كتب غربية ، من بينها
كتاب د جو ديسبانزا " Becoming Supernatural " لمن يتغيا
التشافي الداخلي ، وخوارق التمكين الذاتي الذي يبدو أقرب إلى الخرافة منه إلى
الواقع.
في الحقيقة رحلتي في التأمل
الذي يروِّجون له توقفت في بدايتها ، وألقيت عصا استكشافه حين لفتت إنتباهي دلائل
رسيسة كانت تثيبٍّني وتدلني لمقام الصلاة و الذكر عموما، لكن بصورة أرقى
وأنفذ لأنه خروج وتبرؤ من الذات العاجزة الدنية - التي تؤلهها صيحات في التأمل
المزعوم - ولجوء كلي لحول الذات العلية . عروج لا يعترف بالزمن يتصل فيه
النور بالطين ، والشك باليقين ، والقوة المطلقة بضعف العبد المسكين ...
بيد أننا تعاملنا مع الصلاة
بسطحية ولم نستشعر قيمة ما لدينا ، وانصرفنا نطلب الراحة في غيرها ، بينما يتمثل
فيها الوجه الأمثل لطاقة الحمد والامتنان ، طاقة محبة تملأ الجنان وطاقة سلام
ومناجاة نناجي بها المنان ليجيبنا بالرحمات والرضوان .
تواصل متبادل بين العبد وربه ،
يفرغ به كل الشحنات السلبية التي ترهق نفسيته وتضر صحته ، فإذا شلال الرحمة
الإلهية ينظفه ، والنجاة تحفه ، والحب يرفه ، وصدق ربي حين قال في سورة الرعد: {
ألا بذكُرٍ اللهِ تَطُمَئنُّ القُلُوب } [آية: 28].
موقع المقال على منصة ساسة بوست هذا الاسبوع 👇
أذكر يوما قرأت فيه
عن تجربة إنسانية مع السجود ؛ عن رجل تعرض لوعكة صحية جرّعته مرارة الوجع،
وأجبرته على إجراء عملية حساسة أسفل الظهر كُلّلت بالنجاح ، وبعد أيام غادر
المستشفى ولكن بروشيتة من الممنوعات والمحرمات يفرضها الطبيب من أجل السلامة
الصحية في مثل هاته الحالات، من بينها الامتناع التام عن الحركة: بما فيها الصلاة
والسجود لمدة شهر على الأقل ، ولم يكن له أمام النازلة إلا الإمتثال
والاذعان ..
في البداية تمالك نفسه وظن
المسألة هينة ، غير أن الحرمان أضناه وأتعبه ولم يعد يتحمل ، فتأوه بخاطرة يقول في
بعضها : " كيف لا أشتاق إلى السجود! وفي السجـود .. بعـض مقـامات
القـرب .. فيصير عبير الاشواق.. شـلال عناق .. كنزاً من زادٍ
ووقود ينفضُ عني ثوب رقـود ..! "
فيّأت القصة أشياء كثيرة في
نفسي وعبرت عيناي معربة عن صبابة سنين، إن كان هو اشتاق للسجود وقد حرم منه لشهر،
فكيف بمن حرم منه لـ 238 شهر او لزهاء عشرين سنة ! فلم يجد لذة تضاهي
لذة عناق تحتوي القلب الولِه المشتاق ، تفيض فيها العين بدمع حرّاق ، وتنبعث الروح
بإشراقات النور بعد الضمور .
كم عجبت لإنسان بكامل قواه كيف
يحرم نفسه من صلة تفتح مسارات الأنوار، وتُنهل بها الأسرار ! كيف لم يشتاق لمحراب
الصلاة ! كيف يسمع حيّ على الصلاة ولا يلبّ ! وهو أحوج ما يكون إليها في
الدنيا ، ويوم القيامة يتمنى الواحد لو يعود ليسجد لله سجدات بعدما رأى من موعود
ربه للساجدين ، الراكعين والسائحين في ملكوت ربهم . أما المغبون لنفسه والنائم ،
فيطلب سجدة تثّبت عهده مع ربه الذي نكثه بسهو أو إعراض وهو المحتاج إلى الصلاة
الغانم ، لكن أنّى له ذلك وقد كان يدعى الى السجود وهم سالم .
أحبتي، إن في القلب احتياج لا تشبعه ماديات الحياة ، وفي النفس صدوع لا يرأبها إلا الاطمئنان بالله والصلة به سبحانه ، ولو لم تكن هناك صلاة لابتكر له طريقة تسكّن روعه ، وتعينه على الاسترخاء وتعالج نفسيته المهزوزة ، كما فعل إنسان الغرب اليوم في اختراعه للتأمل ووصفه كأنجع وسيلة علاج للحيارى الموجوعين والمفجوعين بين فجاج الحياة.
ألقوا نظرة على هذه الشهادة - اضغطوا على الترجمة اسفل الفيديو-
فلم نترك آلية السكينة الحقة
التي مُنحنا ، ونبتغيها في اختراعات بوذية وسيخية وهندوسية؟! ..
يقول الدكتور حسام الراوي :
" ما أسلوب الاسترخاء الذي يصفه الأطباء اليوم علاجًا لحالات التوتر العصبي
سوى نمط متواضع من أنماط الراحة عموما ، ولن يحقق للإنسان ما يمكن أن تحققه الصلاة
. وتعتبر مناجاة العبد لخالقه أرقى مراتب الاسترخاء، فإذا ما واظب المرء على استجماع
فكره أثناء الصلاة واكتمل خشوعه يكون قد أطفأ شعلة التوتر والقلق المتأجّجة في
كيانه ".
وذكر الطبيب النفسي توماس
هايسلوب " إن أهم مقومات النوم التي عرفتها خلال سنين طويلة قضيتها في الخبرة
والتجارب هو: الصلاة. وبوصفي طبيبا أقول: إن " الصلاة أهم أداة عرفت حتى الآن
لبث الطمأنينة في النفوس، وبث الهدوء في الأعصاب ... "
" فالصلاة لا يتوقف فضلها
على إزالة أو تخفيف المرض، بل يتعدّاه إلى منح الاطمئنان القلبي ، والراحة النفسية
" كلام عميق، يعيه جيدا كل من طوقته الشدة فحرمته الدعة والهدوء لفترة
في حياته ، ولعلي ممن ذاق الأمرّين حين فقدت نعمة النوم لأزيد من السنتين ، ولم
أكن أنام لربع أو ثلث ساعة إلا بمنوّم ممنوع أن يعطى في الصيدليات سوى بوصفة طبيب
حتى دخلت في إدمانه ولم يعد يجدي نفعا .. وصرت أتوسّل النوم في غيره وغيره من حبوب
وشراب دون طائل . وبعد معاناة طويلة لجأت لمن به جروح النفس تطيب ، وعزمت
بمساعدة أختي وطبيبة صديقة لي جزاهما الله عني خيرا أن أقطع عهدي بمنوم الطبيب
، فوجدت ذلك عند الحبيب سبحانه جل وعلا.
المرء عندما يتعب في متاهات
الحياة ، وتتوالى عليه الأحداث بكل المستويات ، فيقاسى القلب ألوان المعاناة ،
عندها يستشعر معنى أغثنا بها يا بلال فيهرع فوراً للصلاة ، فيدخلها مثقلا
بأدران الطين ، كاسف البال ، ويعود محجل الجبين ، مطمئن الحال ، وكلما زاد
الحضور والتركيز كلما زاد الارتقاء والنقاء والنماء ...
حين تكثر الأنواء ، وتعَاند
الأدواء ، ويغيض الدواء ، ويعز الشفاء ، حينها تتوجه الأعين لمدد السماء ، وندرك
لماذا أمرنا بالصلاة ونفهم بعمق معنى قوله تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45].
في هكذا مواقف نفهم لماذا نصلي
ولماذا أمرنا أن نصلي ، فنستشعر المعية بخضوع ، والرعاية المولوية بخشوع ، فتغمرنا
الرحمة والقوة والسكينة في الحياة ...
فالصلاة لم تفرض لنشقى ونتعب ،
وإنما أرادها الله كي نسعد ، لأنه عليم بضعفنا المتعدد ، وعلم بموجبات السفر في
طريق غير معبّد ، ولهذا سخر لنا الزاد و المدد ؛ فالجسم المادي الترابي سخر له من
نفس جنسه مواد اقتياتية لتقويه وتغذيه بغذاء ينبت من أصله ، ويسر للروح غذاء ينبع
من معينها النوراني لتقتات منه فتشع وتنتعش ، فتجلو البصيرة وتفتح المدارك لنرى
بنور الله ونصبح أكثر حكمة ، وأكثر قدرة على مجابهة الصعوبات والضغوطات بتسليم
وأريحية ونفس رضية ، فلله ما أجمل شعائر ديننا .. ولله ما أشد تقاعس وإغفال كثيرنا
أو بعضنا .
{ أَلَمْ يَئنِ لِلَّذِينَ
آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ
وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ
الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [الحديد: 16] لقد كان الصحابة يذكر بعضهم بعضا بهذه
الآية ، ومنهم من كان يخر مغشيا عليه بمجرد سماع عتاب ربه ، ونحن نسمعها ولا نتحرك
! فما لهذه القلوب قست ، وعن ربها تولت ! ..
ما بالنا نصلي ولا نصلي
؟! ما بالنا نركع ولا نخشع ، ونسجد ونرفع بعين لا تدمع ، كيف للأداء بلا حضور
أن يشفع ، وكيف لصلاة فارغة الروح أن ترفع ، كيف لها أن تنهى عن فحشاء وتدفع ، كيف
لحبيب أن يكون في حضرة حبيبه لاهيّ القلب لا يسمع .
فأن تكون في الصلاة كما ورد في
كتاب "وفي الصلاة وقاية" لفارس علوان " لذة لا يشعر بها إلا من
أخلص وجه لله ، ومتعة لا يتذوقها إلا من استقرت حلاوة الإيمان في قلبه ، وراحة
نفسية ، قلما توجد إلا عند من خضعت جبهته ساجدة لله " خاشعا بسمعه وبصره ومخه
وعظمه وعصبه لربه .
إن الحب لمن أهم آليات الخشوع
في الصلاة، ولهذا نجد صفوة المحبين المقبلين بكلهم على ربهم ينفصلون عن عوالم دنيا
الناس، ويرحلون إلى عالم رب الناس ، ينفصلون عن أي شعور سوى شعورهم بلذة الخلوة
ولذة الأنس بالله .
يقول رجل من التابعين يقال له
ثابت بن أسلم البُناني : " ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام
الليل " ، وروي عن مسلم بن يسار أنه كان إذا
صلّى غاب عن عوالم الدنيا كأنه ثوب مُلقى ، وكان يقول لأهله إذا دخل في
الصلاة : تحدَّثوا فلست أسمع حديثكم ، بل يحكى أنه في يوم وقع حريق في داره
بينما هو يصلِّي ، فلما ذكر له قال : ما شعرت .
في كتب سير الصحابة والسلف
رضوان الله عليهم قصص غزيرة وآيات ، تفحصت فيما قرأت منها فما وجدت عارفا منهم مرض
باكتئاب أو فصام ، أو ضغط نفسي أو مرض من الأمراض السيكوسوماتية كما صرنا نسمع
اليوم ، وما ذاك - كما يقول فارس علوان – إلا لِما " تضفيه الصلاة على المسلم
، من أمن واستقرار نفسي وتوازن عصبي ، وانسجام عقلي ، كلها ممزوجة براحة الضمير ،
وشعور بالسعادة ، وإشباع في العاطفة ، ولذة في الروح لا تعادلها لذة ، هذه المعاني
السامية ، يحسبها غير المصلي هراء ، ويعدها معاني جوفاء ، فيبقى محروما هواء ،
تلعب به ريح السفهاء " مهما أوتي من مال وغضارة ونعماء .
كتاب قناديل الصلاة من هنا
للصلاة فوائد لا
تعد في برئ الأسقام ، وعوائد لا تحصى على النفس والأجسام ، ولكن حسبي هذا المعنى
لو نعيه لأنفسنا لأرحنا. فيا أيها الحبيب الهائم لا تحجم في إقبالك على ربك
وتحرم نفسك من جلسات تطهير وإثراء واسترخاء وارتقاء على مدار اليوم بحضرة إلهية يدخلها الداخل
بحال ويخرج منها بحال أخرى .
دمتم بسلام ووئام - مليكة
تسعدني زيارتك كما يسعدني رأيك بالموضوع مؤيدا كان أو معارضا، فإن كانت لديك ملاحظة أو انتقاد فلا تتردد.. أكتب تعليقك هنا أو ملاحظتك وسأرد عليها بعون الله...