صمود الأمهات الغزاويات: دروس في التربية الراسخة في وجه الاحتلال
تمردت الكلمات ولم تعد تطاوع في التعبير سوى عن عزة. الاحاسيس تتخطى حدود الحروف ومقامات التعبير امام صمود الأم الغزاوية التي قدمت دروسا في التربية الراسخة في وجه الاحتلال..
ما يحدث في عزة لم يحدث في أي مكان في العالم من قبل، تبخرت معه قوانين حقوق الطفل و الانسان التي كانت بالأمس صارمة وحازمة إن انتهك حق من حقوق إنسان أو حيوان..
مقال مرتبط:
لا كلمات يمكنها أن تصف المشاهد الصادمة، خاصة عندما يتعلق الامر بالتعبير عن ألم أمّ وهي تبحث عن ولدها بين أشلاء الشهداء، وحالما تعثر عليه تستجمع قواها كي تطبع قبلة أخيرة على جبينه او على ما تبقى منه وتحمد الله على نواله شرف الشهادة.
تتمنى لو تبقيه بين ذراعيها لفترة أطول أو تفيض بروحها هي الأخرى ويذهبان معا، بيد أنها تتذكر عظم الجزاء في مصابها ثم تودعه بعد أن تغسل بدموعها الغزيرة آثار الفسفور الأبيض عن وجهه المسفر الضاحك المستبشر ..
تشيع جثمانه بابتسامة وادعة لا تخفي وجع الفراق، معلنة جاهزيتها لتقديمهم جميعا فداء للأقصى..
كثيرات منهن، صدقت نيّتهن وفارقن فلذاتهن وكافة أحبابهن ولسان حالهن ومقالهن يردد "مش خسارة فالأقصى" ولن ننحني للعدا وكلنا له فدى.
بلغ التأثر مداه بصور تجسدت فيها قوة ثبات يبدد أي خوف أو هزيمة..
أمهات أظهرن معنى الصمود في قلب الازمة، العطاء والفقد والتضحية لأجل قضية يعيشون لها وبها، وحركن العالم بأسره للبحث عن سر الثبات والرضا رغم فداحة التكلفة.
الصواريخ هذه لن تثنينا ولو انهدمت غزة حجرا حجرا نحنا نبنيها ولو راحوا ولادنا... المرأة الفلسطينية الحمد لله ولادة... ربنا زرع فينا حب الخلفة لأنه يعلم أن بلادنا تحتاج رجالا... الله وعدنا ووعده حق، إنه يرونه بعيدا ونراه قريبا
أي جلدة وأي قوة لدى هذه المرابطة!
من يتأمّل حال الأمهات هناك لن يستغرب من بسالة ذراريهن صغارا وكبارا، لن يَعجبَ لسجدة تيسير أبو طعيمة لحظة استقباله الشهادة، لن يعجب لموقف طفل نسي نزف جروحه وعكف يلقّن الشهادة لأخيه المصاب، لن يَعجبَ لمشهد بذر صغير يرتل القرآن بينما الدكتور يخيط جرحا في رأسه بدون تخدير، ولن يعجب لطفلة تودع افراد عائلتها بخُطبة خنسائية فصيحة ويافعة ترفض الخروج من تحت الأنقاض حاسرة دون غطاء يحجب شعر رأسها.
بينما نحن هنا نخشى على أبنائنا من خدش طفيف أو عرض برد خفيف، نعانق المستحيل لنؤمن لهم مستقبلهم ونلبي متطلبات تعليمهم التي تزداد يوما عن يوم، نكابد لنوفر لهم حياة وادعة ومريحة ماديا. وكل آمالنا أن نراهم ناجحين في حياتهم الشخصية والعملية... نجد الام الغزاوية، تلد وتعلّم وتربي وتحفظ قرآن، تحت صفير النار وتضييق الحصار.
نذرت أنفاسها ووقتها وجهدها لتنشئة قادة احرار ثم تهديهم للموت او بالأحرى تزفهم للشهادة بصدور عارية ورؤوس عالية.
لقد اكتشفنا طراز الأمومة في أرض الرباط، نوع متفرّد ، مختلف تماماً عما نراه دائما، اذهلت المربين والامهات في الغرب، كما أذهلتني ودعتني إلى إعادة النظر في اولوياتي وفي تربيتي لأبنائي..
أمومة لم تؤثر فيها عوامل القصف والعصف، ولم تثنيها الظروف القاهرة عن القيام بدورها في التربية والتعليم على أكمل وجه.
أسئلة جالت في نفسي أمام مشاهد الشهداء التي تتساقط أعدادهم تباعا على ارض عزة. تذكرت عبارات ' يا أم محمد نيالك ياريت أمي بدالك' هُنئت بها أم الشهيد محمد كيوان الذي ارتقى بنار الاحتلال في ربيع عمره 17 يوم 22 ماي 2021 بأم فحم، وبها تُستقبل كل أم فلسطينية يستشهد ابن من أبنائها، فتطوي أوجاعها وترفع أكفها لله أن يربط على قلبها ثم تقف شامخة لتستأنف مسيرة النضال بنفس رضية ومحتسبة.
رباطة جأش الأمهات الفلسطينيات لحظة توديعهن لأفلاذ أكبادهن الذين ارتقوا، يزلزل كيان كل أم رؤوم، ويستدعي منا وقفة لإعادة النظر في طريقة تربيتنا لأبنائنا.
الشعب الذي يضم أمهات بهذا الشكل، كيف له أن يهزم بالقذائف أو تهزه صرائف الاحتلال...
العيون تفتّحت ونحن بعد حرب عزة لم نعد كما كنا، العالم كله أخذ مسارا جديدا ولا أظن أنه سيعود كما كان هو الآخر.
أشعر بشيء ما تبدّل بداخل الكثير منا...
المفاهيم تغيّرت، والنظرة للحياة اختلفت، معاني الرجولة والعزة انتعشت بعد أن كادت تغفوا في أجيالنا وشبابنا... وأملي ان نربي اجيالا قوية تستطيع أن تصمد في وجه التغيرات القادمة والتي ستكون أشد مما رأيناه. أجيالا تحمل لواء القيم والعزة، تضع همتها في هدف يتخطى حدودا ضيقة الى رحاب أوسع وأبقى.
دمتم ودام الانسان بسلام ووئام - مليكة
تسعدني زيارتك كما يسعدني رأيك بالموضوع مؤيدا كان أو معارضا، فإن كانت لديك ملاحظة أو انتقاد فلا تتردد.. أكتب تعليقك هنا أو ملاحظتك وسأرد عليها بعون الله...