كلما ضعفت إرادتي، أستدعي من ذكريات الطفولة إحدى القصص العظيمة التي رأيتها بأم عيني في مدينتي الصغيرة أرفود، عندما كانت تصحبني أمي معها في زيارة لأسرة بسيطة متواضعة كان لها مع البلاء دراما صعبة، بيد أنها تجاوزتها بتحد وبطولة.
كان للأسرة وقتها خمسة أطفال؛ بنت وسط أربع إخوة، وكان لهؤلاء الذكور وضع صحي صعب للغاية، حيث يبدؤون مراحلهم العمرية الأولى بشكل طبيعي، لكن ما أن يبلغوا سن الرابعة عشرة حتى تعـــتل أجسامهم الفتــية ويعتريها الاعوجاح ، ويستمر حالهم كذلك حتى يُقعدوا على كراسي متحركة .
ومع هذا الابتلاء الجلل، رأيت أمهم رغم وهن جسمها، صابرة راضية لا تفارقها الابتسامة ولم يكن زوجها أقل احتسابا منها في ذلك.
فكان الزوجان الراضيين يتناوبان في تعهد أبنائهما دون تذمر، وكانا كلما استشعرا ضعفا نفسيا أو إحباطا يلـــــبد بالغيوم سماء أبنائهما الأربعة يأخذ أحدهما الدف فيضرب عليه وينشدون جميعا أبيات من الزجل المغربي. هذه كانت سبيلهم لامتصاص الضغط النفسي،ومشاعر الضعف التي كان يفرضها عليهم الظرف الذي لا يعـــلم مدى صعوبته إلا الله، فيبعدان السأم والكدر عن بيتـهما المتواضع، فيسـتـنـشق الزائر بين جـنـباتــه عبيــــر الطمأنينة والرضا، يتضوع ونسائم الإيمان تفوح.
ومن لطائف الأقدار أن جعل الله لنا في مثل هذه القصص الحية عبرًا ناطقة تأخذ بأيدينا للأوبة إليه، ممتنين لأنعمه التي لا تحصى، فله الحمد حتى يرضى وله الحمد بعد الرضا.
ويشاء الله سبحانه، وبينما أنا أنقح الخاطرة، أن أصادف قصة شبيهة بالتي ذكرت آنفا، هذه المرة في مدينة الرشيدية غير بعيد عن مدينتي .. في بيت السيد حكام تتحدث المعاناة بكل اللّغات، كيف لا وأبناؤه السبعة من الجنسين تتشوه أجسامهم الغضة ويصابون بالشلل عندما يصلون عتبة الثلاثة عشرة من أعمارهم، وتزداد حالتهم سوء بتقدم سن حياتهم. يتفطر الأبوان أسى وحسرة على فلذات أكبادهم السبعة وقد عجز الطب عن إبلالهم .
العبر عديدة في الحياة احيانا تكون أشد مما ننشاهد لا نملك أمامها إلاّ أن نردد بكل يقين وإذعان : يا الله، يا لطيف، يا جبار القلوب، لك في كل شأن من شؤون خلقك حكمة بالغة لا يحيط بها بنو الإنسان ، فانشر سحائب رحماتك على من اخترتهم لبلاء تنوء بحمله الجبال، واجعل لي ولهم عوضا في رحاب جنانك رفقة المصطفين من رسلك وأنبيائك.
حرر سنة 2011
تسعدني زيارتك كما يسعدني رأيك بالموضوع مؤيدا كان أو معارضا، فإن كانت لديك ملاحظة أو انتقاد فلا تتردد.. أكتب تعليقك هنا أو ملاحظتك وسأرد عليها بعون الله...