F
ميابيلا ميابيلا
random

آخر الأخبار

random
random
جاري التحميل ...

تسعدني زيارتك كما يسعدني رأيك بالموضوع مؤيدا كان أو معارضا، فإن كانت لديك ملاحظة أو انتقاد فلا تتردد.. أكتب تعليقك هنا أو ملاحظتك وسأرد عليها بعون الله...

حميمية الأسرة المعاصرة واقع وآمال


حميمية الأسرة المعاصرة واقع وآمال

مقال حميمية الأسرة المعاصرة واقع وآمال
حميمية الأسرة المعاصرة واقع وآمال






يعتبر الحديث عن حميمية الأسرة في حياتنا المعاصرة بمثابة العزف على وتر الأوجاع لنفوس مستوحشة في بنيات الطريق ونكء جروحها الغائرة. 
فالبيت لم يعد ذلك المرفأ الآمن الذي يهفو إليه القلب ويسكن، والملاذ الذي يستروح فيه الأرواح.. لم يعد فضاءه مناسبا للأنس كما كان، متيحا لساكنته الاستمتاع بحميمية علاقاتهم، وممارسة نشاطاتهم في بهجة وانسجام بعيدا عن زحمة الحياة. 
لقد أصبح مجرد جدران ناعمة تضم بين جنباتها أجسادا مقطوعة النفس، منهكة القوى وجامدة الملامح كالأشباح، لكل منها عالمه الخاص يغلّقه بإحكام.. 
بيوتا فنادق، مصفوفة النمارق، مكتظة بالمفارش، تحكي فخامة فراغ مملوء بأجهزة ذكية، تؤكد افتراس المدنية الحديثة لنا ولأوقاتنا. حياة معصرنة، متبرجة بالكريمات والأصباغ تخفي عيوب الرتابة والخواء، تخدعنا بظاهر جذاب كي نتسابق بشكل محموم في التهام أجزائها كقطعة حلوى، نتخلى من أجلها عن قيم كانت تعطي للحياة قيمة ومعنى. 



فتمر الأوقات سراعا تسرق زهرة العمر في غفلة لا نستفيق منها إلا ونحن في دوامة توتر، استدرجتنا نحو صراعات تهشم ملامح الوئام والامتنان، وتعطل رئة الحب في علاقاتنا. وبدل البحث عن علاج استسلمنا لمسكنات سرت في وريد يومياتنا الأسرية، لم نستطيع فطام نفوسنا منها.



إن الروابط الأسرية تمتاز عادة بدينامية تفاعلاتها وطبيعتها التكاملية، ضمن مؤسسة حيوية قائمة على مبدأ المسؤولية والتراحم، مبنية على أساس المودة والاحترام. كلما قوي نسيجها كلما زادت متانتها، وساد الأمان والوئام أجواءها.. وتماسك النسيج ونجاحه متعلق بمدى الالتزام بمقتضيات الزواج؛ الذي يعتبر ارتباطا عاطفيا شرعيا يجمع بين رجل وامرأة متراضيين في ظل تعاقد ثقافي حضاري ومرجعي، يلتزم فيه الطرفان بمبدأ الشراكة والمسؤولية في تدبير الشأن الأسري، وتحمل تبعات العقد من رعاية الأبناء وتنشئتهم تنشئة سليمة، مع الحرص على توفير الظروف الملائمة التي تضمن سعادتهم واستقرارهم النفسي والعاطفي. بيئة صحية تواكب مختلف المراحل العمرية وترقب التحولات المحيطة بتبصر ووعي.



فأعباء الحياة الأسرية أعباء ثقيلة تحتاج لتكاتف جهود، وتكافل عاطفي بين زوجين من نفس واحدة يسكن كل منهما للآخر في مودة ورحمة كما قال سبحانه وتعالى في سورة الروم آية 21 {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} سورة الأنعام. 
فالسكن المودة والرحمة هي ثلاثية التناغم والوفاق الزوجي - الذي سبق أن أشرت إليها بمقال يحمل نفس العنوان -.. أجملها القرآن بشكل بياني بليغ يدعونا للتأمل قليلا في بعض مراميها؛ فيحملنا مصطلح السكن لمعاني السكون والطمأنينة والهدوء فيقال لغة سكّن الجوع أو الظمأ بمعنى هدأ وروّى، وسَكَنُ الرجل أي امرأته وعياله. 
أما سجية الرحمة اصطلاحاً فرقّة تقتضي الإحسان إلى الْمَرْحُومِ والرأفة به، فهي في بني آدم عند العرب رقة القلب وعطفه كما قال ابن منظور، منها سميت رحم الأنثى لما يأتي-الرحم- منه ما يُرق له ويُرحم من ولد، عرفها عبد الرحمن الميداني 'بأنها رقة في القلب يلامسها الألم حينما تدرك الحواس أو يتصور الفكر وجود الألم عند شخص و يلامسها السرور حينما تدرك الحواس أو يتصور الفكر وجود المسرّة عند شخص آخر'. 
وتأتي المودة كعنصر مكمل لسحر وجمالية الوصفة الربانية كناية عن المحبة والوئام، فنقول إنسان مِوًدّ أي كثير الحب. فُسّرت في علم النفس بأنها شعور بالانسجام نابع من الاحتكاك الاجتماعي العاطفي الدائم بين شخصين و أكثر. فالمودة أثر الحب السلوكي العملي التبادلي الذي يحفظ الزواج من الفتور، إذن فهي أعمق من مجرد عاطفة جياشة بين شخصين اجتمعا في عش الزوجية سرعان ما تخبو لسبب أو آخر، وهنا تكمن دقة التعبير القرآني. 

إن نوعية العلاقة بين الزوجين وجودتها هي ما يحكم نوعية الحياة الأسرية كلها؛ حيث يفترض فيها إضافة لما ذكر في ناصية المقال، أن تقوم على آليات الشراكة ونكران الذات والمشاعر المتبادلة والعطاء، وليس على الخلاف والتناحر، ومنطق الأثرة وفرض السيطرة. 
وما يعكسه واقع الحال صورة معتمة من الشنآن، مغايرة تماما لنظم الحياة المشتركة المتعاقد عليه إراديا بين الزوجين نظرا لعدة أسباب مردها في نظري بالأساس، إلى قلة الوعي وغياب النضج. خاصة بعد اقتحام مستجدات أثرت سلبا في البنيات والمفاهيم، وصارت واقعا تجاوز أمر الرفض؛ لأنه لن يغير فيه شيئا، بل سيجعله أكثر تعقيدا مما هو عليه، ويزيد الهوة اتساعا بيننا وبين أبنائنا جيل التقنية الذكية. 
فالحب في مؤسسة الأسرة إكسير نجاحها، ينمو نماء متسقا بمرور الأيام، فيربو بالاحترام المتبادل والرعاية المستمرة الدؤوبة من الطرفين. في رحابه يحصل الإشباع العاطفي الذي يضمن سيرورة العلاقة، ويحفزها للعطاء والتفاني في سبيل استقرار الأسرة. ومن الخطأ إغفاله بالخضوع لمؤثرات الحياة والانشغال المتواصل فنضعف حبال هذا الدرع الواقي والمحفز الراقي.

إن الحب المراد ليس ذلك الحب الذي يعرض في الميديا والمسلسلات، فذاك لا ريب تعلق مرضي مُمْرض، تسفّل بالحب في وضاعة -وأريدَ له أن يكون كذلك-. حب استغل سذاجة الجيل وحداثة سنه، وتعطشه للحميمية المفقودة، وسافر به في خيالات الوهم حالِما بعيش قصة حب، تفاصيل أحداثها كالتي عاشها في الدراما التركية، والهندية.. فيدخل 'القفص الذهبي' غير مدرك لماهية الزواج بأبعاده. نظره على الرومانسية الخادعة التي كونها لديه الإعلام. فيصطدم من الشهور الأولى بالتحديات والمشاكل، وهو لا يملك مهارات احتواء الأزمة وفن تدبيرها، ثم يأتي الأبناء كتحصيل حاصل –إن جاز القول- في جو لم يهيأ بعد لاستقبال براءتهم.

إن الحب أجمل منه في الحقيقة، عندما يجد له زوجين ناضجين لا يتوقعان الكمال من بعضها، يقدران المسؤولية ويفهمان طبيعة تفكيرهما وتكوينهما كذكر من المريخ وأنثى من الزهرة على حد تعبير جون غراي، زوجين متشبعين بثقافة الحوار. 
وحتى يتأتى لنا نموذج بهذا المستوى، يلزم الكثير من التكوين من المفروض أن تتولاه الدولة أو مؤسسات خاصة تتكفل بتأطير الأزواج الجدد، تعلمهم مهارات التعامل والتواصل الفعال، وفن إدارة الخلاف. 
وتعد دولة ماليزيا رائدة في التجربة؛ حيث جعلت الدورات التأهيلية إجبارية يتلقاها المقبلين على الزواج والطلبة في نهاية دراستهم الجامعية، وبينت لديها الإحصاءات فعلا انخفاض الطلاق من 32% إلى 7% في إطار زمني لم يتعدى 4 سنوات. مما جعل دولا شقيقة تحذوا حذوها، وتبادر بتقديم الدورات مجانية تحت إشراف مختصين في الشأن الأسري، النفسي، الشرعي والقانوني. وقد أرست يقينا نجاحها في تحقيق أهدافها التوعوية وتبين أثرها في استقرار الزواج. 
ففي السعودية مثلا دلّلت دراسة قام بها دكتور آل درعان رئيس قسم التطوير بمركز مودة الاجتماعي انخفاض الطلاق لدى فئة خضعت لبرنامج التأهيل الزواجي بنسبة 1,7% مقابل 98,3% وتأكد بعد سنة أنهم يستمتعون بحياة سعيدة ومستقرة. الفكرة يرفضها البعض بذريعة أنها مثالية وقد تزيد من نسبة العنوسة في مجتمعات ترتع في الأمية إضافة لكونها تساعد الزوجة على التمرد وما إلى ذلك.. لا أريد إزعاج معارضي الفكرة، ولكن الأمر يحتاج تدخلا يعيد الأمور إلى نصابها أملا في استرجاع استقرار الأسرة المفقود منذ زمن..

لا جرم أن الزواج مشروع يستحق أن نوليه عناية خاصة يقتضيه جلال الميثاق الذي يباركه الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وينبغي أن نهتم بما يستدعيه من إعدادات نفسية معرفية أكثر من تحضيراته وكلفته المادية. 


ودمتم بسلام ووئام مليكة

عن الكاتب

مليكة بالكشة صانعة محتوى وكاتبة مقالات على عدة مواقع، متتبعة لسبل التعليم الذاتي والتطوير المستمر، تم اختياري في 2015 سفيرة لمنصة إدراك التي نهلت من مبادراتها الكثير. كنت أول مغربية تحظى بهذا اللقب، واعتبرته وساما وشّح مسار تعلمي، شحذ همتي لطموحات اخرى في الانترنت الذي أتاح لي فرصا ما كانت لتحقق لولا تيسير الله للجني من محامده التي لا تجحد. مما رسّخ قناعتي بأن أفضل سبيل للتغلب على الصعوبات التي تعترض طريقنا، هو الإنجاز والصمود أمام المواقف ومواجهتها بمرونة وعدم تشنج أوانفعال. ولإيماني بأن تغيير نمطية التفكير عندما يكون بفلسفة المحبة تكون طاقته أعلى في التأثير، حركتني عاطفة جياشة لتأسيس مابيلا، التي أشارك بها تجربتي كما تجارب إنسانية أخر ربما تنفع أو تعين شخصا، بطريقة ما، في تحسين جودة حياته، كما أدوّن أفكارا في مواضيع حياتية مجتمعية أناقشها ليس كطبيبة، ولا مختصة، وإنما كإنسانة تعلمت مما جادت به مواقف الحياة المختلفة، بعد تجربة مرضية غيرت مجرى حياتي بالكامل.. وجعلتني أصمد وأقف قوية في أشد حالات الضعف.. وعلمتني بأن ما ندركه في أوقات الألم لا ندركه أبدا في أوقات الدعة والدلال.. وأن ما نمر به يوميا من محن ومرارات ليس عبثيا.. بل حكمة الهية لتغيير اتجاه بوصلة قلوبنا للأوبة الخالصة إليه سبحانه.. مليكة بالكشة

التعليقات

No

اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

ميابيلا