أفاقت مترنحة وغير واعية، بينما ظل فكرها عالقا في الحدث، وصدى الخبر يصم آذان قلبها، كأنها شبه مستيقظة، معلقة بين الحلم واليقظة.. استيقظت واستيقظ معها الحلم..
أخذت تفرك عينيها وتفتحهما عدة مرات، حتى تتيقن أنه كان مجرد حلم مزعج، بل كابوس أرعب فرائصها.
وقفت بصعوبة يلف بها المكان، ولا تعلم كم بلغت مدة غيابها عن الزمان، وإذا بها تتفقد ملابسها المبللة بدموع الخيبة والخذلان، وتتذكر الذي كان من خديعة أعز إنسان.
طوقها الإحساس بالضياع والخديعة.. تهاوى صرح الثقة، صرح الأحلام، صرح الحب.. كل شيء كانت تبنيه منذ سنين إندكّ في لحظة.
هل تواجهه بفعلته ؟ وإن كاشفها، وأقر بها، هل تبقى معه في بيت واحد ؟ وتمكث ذليلة ؟ وكيف ستنظر إليه وقد انفرط من ناحيتها ماكان بينهما ؟ أم تلملم رفات كرامتها وتغادر إلى مكان حيث لا تراه ؟
لكن أين تذهب بأربعة أطفال مهيضة الجناح ؟ وكيف تقوم بأمرهم ؟ ومولودها الذي أتى إلى الدنيا حديثا، كيف تتعهدهم وحدها بلا عضدد ؟
كم أوجعتها طعنة الظهر، وكم غوّرت جراحها اليد التي كانت تأمل أن تكون لها بلسما وشفاء.
ماذا تفعل الآن وقد أهدرت جمالها، وزهرة شبابها تتبع السراب ؟
سكنت برهة، وضمت يدها على صدرها بقوة، محاولة تسكين نزيف مشاعرها. لا يمكن أن يكون هذا حقيقي! لا بد أنها تحلم..
يستحيل أن يفعل بها ذلك، وقد رضيت به أبا لطفلين من طليقته، وتخلت عن طموحها ودراستها لأجله..
لقد وعدها أن يكون لها وحدها، وأن يعوضها عن الأيام الصعبة، وما تحمّلته من أذية أهله، ولسان أخته السليط.. تجشمت آلام السنين بلذة إرضائه، كان هو أثيرها ومحور حياتها، كم صبرت على غيابه، وتقلبات مزاجه، أبضرة يكافئها! أهذا ثواب كفاحها!
مر أمامها شريط حياتها كفلم سينيمائي؛ من ليلة زفافهما وهو يعدها بحياة هانئة وسعيدة، إلى اللحظة التي اخترقت رصاصة الغدر صدرها النابض باسمه.
انبجست الدموع من مآقيها، وضجّت بصوت محزون يا ليتها قضت نحبها قبل
هذا ، وكانت نسيا منسيا.. ثم استغرقت في البكاء مرة أخرى، وغاصت في متاهات الذكريات ، يجرفها عُباب الإنفعالات إلى حافات الجنون.
وبعد برهة أفاقت على صراخ رضيعها المبحوح من كثرة البكاء في الغرفة المجاورة، هرولت إليه مسرعة، ثم احتوته بين ذراعيها بحنان ، وهي تعتذر عن ذهولها الخارج عن سلطة أمومتها، فتناولت قنينة ماء وأسعفته بجرعات منه، بينما رشفت القنينة عن آخرها كأنما تحاول إخماد ضرام النار بقلبها.
وجدت بعض العزاء في حركة صغيرها الذي أخذ يتلمّس وجهها المتورم، الشاحب، واستسلمت لدفء أنامله الغضة، وهي تنمنم بصوت أشبه إلى النحيب، وتردد كلمات وجدتها ترثي حالها ، ترسخت بذهنها من كثر ما كانت تطرق مسامعها خلال انبعاثها من البقالة المحادية لسكنهم، لم تكن تميل إلى هذا اللون من الغناء وبالذات مع اشراقة الصباح حيث يحتاج المرء أن يستقبل يومه بإيجابية تشرح صدره، بعكس صاحب الدكان غريب الأطوار، يظهر أنه كان ممن اختبروا ألوان الحياة، ولقي بمقاطع الأغنية توصيفا لأحاسيسه المكتومة، فكان لا يسأم من دندنتها مع مغنيها كل صباح:
ده أنا اللّي مكسور في الحياة ، ومشيت في مليون إتجاهوالدنيا حالفة بكده ما بتيجي في يوم صفي
ليه إلّلي قاسي ومفتري الدنيا بتبوسه ؟
وإللّي على فيض الكريم الخلق بتدوسه
يا دنيا بيعاني لإمتى أنا حعاني ؟
ليه الأصيل قيمتو تقل ؟
حياته تبقي عذاب و ذل
أما القوي مقضيها و عايشها بفلوسه ؟
يا دنيا ياللّي مشيّلانا هموم تقال
متشكرين علي كل حال
متشكرين عالجرح ، عالخوف ، عالألام ، على هم أتقل من الجبال
وانصرم نحو أسبوع وهي منزوية بين حطام الأحلام، ولفائف الأشجان، لم تعد إلا بجذوة من نور لا تكفي لهدايتها الطريق.
واقترب موعد رجوع زوجها من سفره المتكرر الذي انجاب عنه الغموض الآن، وباتت تعلم سر تأنقه، وتعطّره، وحرصه على جمع حقيبة السفر بنفسه، وحشوها بأحدث الملابس شراء وبهاء، كانت تتعجب لأمره، لكنها تلافت سؤاله، وغلّبت جانب الثقة في حبه ووفائه..صحيح، يا مأمّنة للرجال يا مأمّنة للماء في الغربال
لأول مرة لا ترجو عودته إليها بسرعة، ليست مستعدة لاستقباله بابتسامة وبشاشة. تحتاج مزيدا من الوقت لتتعافى، لم تذق طعم الراحة، وعينها جفاها الكرى لثلاثة أيام متتالية.
كما أنها لم تتيقن بعد من كونها اتخذت القرار الصائب في البقاء، يلزمها إعادة ترتيب أوراقها بهدوء، لكن أنّى للهدوء أن يأتي وسط ضوضاء إنفعالاتها المتأججة، وأزيز أحاسيسها المجروحة، المضطربة !
لم تسأل لتطمئن عن أحواله، وأحوال أولادهما في المخيم، و لم ترد على اتصالاته، ولا على رسائله المرتابة في لامبالاتها التي لم يألفها مذ ربطهما ميثاق الزواج . كانت تمر بأوقات عصيبة، مختلفة عن كل الذي مضى..
هي أيضا كانت مختلفة عن نفسها ذابلة، شاردة الذهن، هائمة التفكير..
ولمَ تُسلّم لنوازع الغيظ، وما جدوى الإحتراق ؟ وما فائدة الغضب ؟ هل سيغير ما وقع ؟ طبعا لا، ربما نفّس عن حنق يتلظّاها، لكن مـا ذا بعد ؟ ما المكاسب ؟
استجمعت قواها، واستقرت أخيرا على أن تقبل الحقيقة على مرارتها هو الرأي السديد، لأن الإنكار لن يفيد، وخوض المعركة أمر عنه لا محيد.
ألجمت اندفاعاتها بلجام العقل، وانتهت بعد مدٍّ وجزرٍ لموقف لا نصادفه إلا لماما، يمكن أن تقرئيه زائرتي العزيزة ضعفا واستسلاما، وربما قلت في نفسك لو كنت مكانها لتركت البيت لهما، ورميت له أطفاله انتقاما، وطلبت الطلاق وتملصت من كل ما يربطني به؛ لأنه لا يستحق حبي وعطائي له، وربما.. وربما
لن أقول لك أن صاحبة التجربة لم يكن لها ملاذ آخر تذهب إليه إن خرجت من بيت الزوجية، ولن أقول بأنه لم يكن لها مورد رزق تعول به نفسها وأطفالها؛ لن أبرر موقفها لأنه لا يحتاج إلى تبرير، ولأنه موقف أراه في منتهى القوة والشجاعة، اختارت فيه الورقة الرابحة، وانقذت نفسها وأطفالها من دمار نفسي كان من الممكن أن يلحقها وإياهم بزواج زوجها عليها لو لم تعرف كيف تقلب المعادلة لصالحها.
منفذ الخروج لا يكمن فقط بتغيير المظهر الخارجي، وتبديل اللوك بقصة جديدة للشعر، ولون فاتح أشقر.. وهذا ما خلصت إليه.
لقد إرتأت أن تشتغل على نفسها لتحقق استقلاليتها المادية، وقررت استغلال وقت انشغاله عند شريكتها في الحصول على شهادة بتكوين معين، خول لها فتح مشروع صغير، صار يكبر بكدها ومثابرتها، فغير حياتها تماما، وجعل الزوج ينبهر بشريكته الأولى، ويقدم إليها فروض الولاء.
لن أقول أن في ردة فعلك مبالغة؛ لا أبدا، فهي ردة فعل متوقعة، ومن النساء من تذهب لأبعد مما ذهبتِ إليه، أذكر امرأة جمعتني بها الأقدار في السعودية تزوج عليها زوجها، فأخذت تبحث له عن زوجة ثالثة نكاية في الزوجة الثانــية، سـألتها لماذا ؟ فـأجابتني: أريـد أن أحرق قلبها كما حرقت قلبي، وامرأة أخرى أعمتها غيرتها من ضرتها فأرهقت نفسها باشعال الفتنة، وبذر الفرقة فما زاد ذلك الزوج إلا ارتباطا وتعلقا.
إن ردود الفعل تختلف من زوجة إلى زوجة، كل حسب بِنيتها النفسية، وقدرتها على التكيف. وأيما امرأة تعرضت لنفس الموقف ستحتاج فترة قبل أن تستفيق، وفترة لتعالج الموقف وتتخطاه، بعد أن تمرّ بمراحل الصدمة النفسية الخمسة من: إنكار ، غضب، تفاوض، اكتئاب، ثم تقبل وتعافي..
بيد أنه قلة قليلة فقط من النساء من يصلن للمرحلة الأخيرة، في حين يظل قسم منهن في مرحلة الغضب، وقسم آخر يعلق في حالة الاضطراب والاكتئاب.
تعدد الزوج، وزواجه على زوجته ليس المشهد الأخير، ولكنه مستهل مشاهد متواترة ومغايرة ، تضع الزوجة الأولى في مفترق طرق، يدعوها لاتخاذ القرار؛ إما المغادرة، وإما الإستمرار. والقصة التي أوردتها نموذج حي لكل النساء.
أقر، أن الأمر في البداية ليس هيّنا على أي أنثى مهما بلغت قوتها وصلابتها، لكنه برغم ذلك ، ومهما كان القرار المتخذ، يمكن اعتباره نقطة تحول في العلاقة مع الله والعلاقة مع الذات؛ الذات المعذبة الساعية دوما لإسعاد الآخر، تاركة نفسها في ذيل قائمة الإهتمام، ولعله أيضا بإذن الله ورحمته يكون سبب انجاز كبير لم يكن في الحسبان، وربّ محنة جلبت منحا وفتوحات.
أوصيك عزيزتي، بعدم النظر لمواجعك مهما كانت، حولي ذبذباتها السلبية لذبذبات إيجابية تحرر قدرات الأنثى التي بداخلك، وسوف ترين العجائب في نفسك ومن حولك، وأذكرك ونفسي بمقولة أظنها لشكسبير ' لا تركزي نظرك على الأشياء الموجعة في حياتك، ركزي نظرك على ردة فعلك '
وأقول لك، أن تجاربنا مع الأشخاص جميعها تعلمنا الشيء الكثير؛ فبعضها يهدمنا، وبعضها يرممنا، وبعضها الآخر يعيد بناءنا من جديد، لكن ولا واحدة تقتلنا..
ودمت بسلام ووئام مليكة
إقرئي أيضا : ابحثي عن مواطن السعادة بعيدا عنه من هنا
تسعدني زيارتك كما يسعدني رأيك بالموضوع مؤيدا كان أو معارضا، فإن كانت لديك ملاحظة أو انتقاد فلا تتردد.. أكتب تعليقك هنا أو ملاحظتك وسأرد عليها بعون الله...