عصر الحداثة وسيكولوجية الكائن العربي
لا ننكر أبدا، الخطوات التي قطعها العلم الحديث خطوات عملاقة لم يعرف لها التاريخ الإنساني مثيلا، افتتح بها القرن الحالي حقبة جديدة شهدت ثورة علمية معرفية تكنولوجية تجاوزت كل التوقعات، تظهر في جانب إنساني مشرق مع ما توصل إليه العلم في زراعة الأعضاء بخلايا جذعية، وإحياء أنسجة خلايا أخرى تالفة بواسطتها، والأبحاث جارية على قدم وساق لإيجاد اكتشافات جديدة تحقق ما كان بالأمس القريب مستحيلا في علاج معضلات الأمراض.
كما اكتسحت التقنية الآلية مسرح الحياة والطب الحديث في الدول المتقدمة، فاستعمل الروبوت عن بعد بنجاح في أدق العمليات الجراحية. وباضطراد التقدم التكنولوجي تعددت وسائط التواصل، وتيسر الحصول على المعلومة، وصرنا نرى بيوتا ذكية، عيادات إلكترونية، مكتبات رقمية وتجارة تسويقية افتراضية وكثير من الأمور التي كسرت قاعدة المألوف.
بيد أن طموح الإنسان لم يتوقف عند هذا الحد، بل قطع شوطا كبيرا في ثورة بيولوجية منقطعة النظير، حيث توصل لهندسة الجينات وتخليقها، في تحد صارخ لقوانين الطبيعة. وتمادى أكثر فأنتج أغذية معدلة وراثيا، وحيوانات مهجنة، ثم تمادى أكثر فأكثر وتعدى الحدود الإنسانية بتمكنه من تطوير فيروسات ناقلة لأمراض معدية، يتعذر توفير مضادات علاجية لها، يهدد بها القوى المعادية وحتى الصديقة إن دعت إلى ذلك ضرورة البقاء في الصدارة. وهو ينشد اليوم تجديد الأعضاء لإطالة عمره وتحسين سلالته، والله يعلم بما سيأتي غدا.
موازاة مع هذا التغيير الذي بلغ مداه كل مناحي الحياة، وأثر سلبا على البنيات السيكولوجية للأفراد والمجتمعات، زاد اغتراب الكائن ومحنته، وانقسم فيه العالم قسمين ؛ قسم فاعل رائد للعلم والتقنية، بلغت انجازاته عنان الفضاء . وقسم بدولنا العربية مفعول به مستهلك وفيّ حاله كمن ألقي به من عل، لا يقوم من صدمته إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، يغرق يوما بعد يوم في فضلات الحضارة، يتعايش معها في الظل، ويندهش لما تلده التقنية من أدوات ذكية، دون أدنى سعي منه للالتحاق بركب الرواد، اللهم بعض المحاولات الخجولة التي لا تسمن ولا تغني من جوع .
تأخر علمي متوارث منذ عقود جُنّ فيه مجتمعاتنا بمفاتن العصر، تائهة عنه نواته الأسرة التي ضلت بدورها عن مقاصدها وأولوياتها في بث الأمن، وتربية الفكر النقدي لناشئة غضة. وبدل إعمار الإنسان، ورفع مناعته بتلبية احتياجاته العاطفية، انصرفت تكابد مشاق الدفاع عن مكاسب واهية، تشرب من مياه الحضارة المالحة، وتركت نشأها رتاعا في الفراغ. لقمة سائغة للأنفوميديا يعب مما تنفثثه من مجون وسخافة على شكل فن رومانسي من ناحية، ويصطدم بمشاهد العنف والوحشية من ناحية ثانية.
فلا يستوعب ذلك الانفصام، ولا يملك بصيرة التحليل لما يتلقى ويشاهد. وقد دللت دراسات علمية أن إعلانا مدته 20 ثانية فقط كفيل ليطبع تأثيره على المشاهد، فما بالك باتصال دائم مع الهاتف الذكي، أو قضاء ساعات وساعات أمام جهاز التلفاز أو الحاسوب دون رقيب في متابعة مادة إعلامية تُغشّي الأعين بسواد الكآبة، و تحرك غرائز هاجعة، ورغبات لا تجد لها كابحا، ولا متنفسا سليما .
" إن التلوث عندما يحدث بمعدل بطيء وتدريجي يجعلنا نفقد الإحساس بقبحه كما يفقدنا الإحساس بالنواحي الجميلة التي نتخلى عنها من أجله " ستيفن كوفي
ودمتم بسلام ووئام مليكة
ملاحظة كل الحقوق محفوظة لهاته المدونة وأي نسخ للمقالات يمكن أن يعرض لمساءلة قانونية
تسعدني زيارتك كما يسعدني رأيك بالموضوع مؤيدا كان أو معارضا، فإن كانت لديك ملاحظة أو انتقاد فلا تتردد.. أكتب تعليقك هنا أو ملاحظتك وسأرد عليها بعون الله...