خلق الإنسان بين الطبع والتطبع
يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِ منِّي مجلِسًا يومَ القيامةِ أحاسِنُكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ، وأبعدَكم منِّي مجلِسًا يومَ القيامةِ الثَّرْثارون والمُتشَدِّقون والمُتفَيْهِقون. قالوا: يا رسولَ اللهِ قد علِمنا الثَّرثارين والمُتشَدِّقين فما المُتفَيْهِقون ؟ قال: المُتكبِّرون } وقال عليه صلاة ربي وسلامه: { أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم }.
هل فعلا تغير الجبال مواضعها ولا تتغير الطبائع من أصحابها ، هل من شب على شيء شاب عليه - يعني لي فيه شي طبع كيبقى ميمكنش يتّغير بالمرة - ؟ وهل الطبع سليقة تغلب التطبع أم التطبع يغلب الطبع ؟ كانت تساؤلات تدارستها و الأخوات في لقائنا يوم الأحد وأضعه لمن لم تتمكن من الحضور معنا وأرادت الرجوع له ، وحتى لكم أحبتي وزوار مدونتكم الأوفياء.
لقد أعلى الله من شأو الخُلق الحسن، وجعل المتصفين به في درجة الزهاد العباد ، لقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ورد في صحيح الجامع: (إنَّ الرجلَ لَيُدرِكُ بحُسنِ خُلُقِه، درجاتِ قائمِ الليلِ صائمِ النَّهارِ) . ولقد صنف العلماء مكارم الأخلاق ومحاسن العادات في المرتبة الثالثة من مراتب المقاصد العامة للشريعة الإسلامية . ولأهمية الموضوع البالغة تناولت مواضيع بعينها ، وتنقّلت في الدروس الأخيرة بين مفاتيح القلوب ، إلى ميكانيزمات التواصل بأنماط الشخصية وأساليب الحوار في الحياة الزوجية وحركت أشياء ومواجع 'معذرة ' عندما تناولت رقي الخلق في الترفع عن أذى وقذى العلاقة السامة .. وناقشنا الدفع بالتي هي أحسن كمنهاج قرآني رباني في التعامل مع إساءات البشر، وما يستدعيه من مغالبة النفس وضبط انفعالاتها، وسنبقى اليوم في نفس إطار حسن وتحسين الأخلاق لما له من حاجة في كل وقت وفي وقتنا بالذات، بعد الذي صرنا نراه من ابتذال وازدواجية في التصرفات والفعال، حتى فيمن يصلي ويصوم ويقوم، ويقصر تدينه على الأداء والمعالم، متجاهلا لب الدين في المعاملات والمكارم ، حيث تتبدّى البرهنة الحقّة لمدى صحة ذاك الإلتزام، وأي إيمان للمرئ إن لم يجعله على كسب الخير يداوم ! {يوم لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } سورة الانعام . روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام: يا خليلي حسِّن خُلُقَك ولو مع الكفار ، تدخل مدخل الأبرار . وإن كلمتي سبقت لِمن حَسُن خُلقُه ، أن أضله تحت عرشي ، وأن أسقيه من حظيرة قدسي ، وأدنيه من جواري .
فلمقاربة خلق الإنسان بين الطبع والتطبع وأيهما أغلب ، دعونا ابتداء نعرف معنى الطبع وما هو التطبع وما الفرق بينهما
الطبع، أصله من فعل: طبع على ، يطبع، طبعا وطباعة.. وجمعه طباع، أما تعريفه في المعجم اللغوي، فهو: صور واستخرج ونسخ وختم.. نقول طبع على الثوب بمعنى رسم عليه رسمة او صورة ، أو نقول طبع الثوب: أي اتسخ ' تْطبّع ' ، المفهوم معروف ودارج عندنا باللغة العامية - ونقول طُبعت فلانة على فن من الفنون: الطبخ مثلا أو الحلوى ، بمعنى أنها موهوبة ومتفننة ، تبدع فيه بتمكن وبدون تكلف أو تصنع . ونقول أيضا فلان مطبوع على كذا ، أي مجبول عليه .. ونقول طبَع اللهُ النَّاسَ: بمعنى خلقهم وأنشأهم على صورة معينة ...
نخلص ان الطبع يتعلق بالجانب الفطري في الانسان .. بدليل قول رسول الله عليه الصلاة والسلام، في الحديث لصحابي جليل
يقال بأنه الأشج عبد القيس: ” يَا أَشَجُّ، إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا
اللهُ وَرَسُولُهُ: الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ ” فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا تَخَلَّقْتُهُمَا،
( اي اكتسبتهما بالممارسة والتمرن ) أَوْ جَبَلَنِي اللهُ عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: ” بَلِ
اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا “.
أما التطبع فهو كل شيء مكتسب بالممارسة المتكررة .
ونقول التطبع والتطبيع (ماشي التطبيع مع اسرائيل)، كلاهما تعويدٌ على تكرار القيام
بأفعال يومية حتى تصير عادات راسخة وأخلاط في طبيعة الإنسان النفسية المزاجية،
تصبح مطبوعة مثل الختم في الشخصية.
وبالتالي فالخلق السامق يمكن ان يكون في الطبيعة، ويمكن ان يكون تطبعاً، و يحضرني هنا كلام نسمعه يتردد على ألسنة البعض، حين تطلب من أحدهم أن يبعد عنه عادة سيئة تطبّع بها : يجيبك قائلا: إِيوا
أنا هَكْدَا دَاير ما عندي مَنْعمل هادشي لِّي عْطَا الله، ولا هادشي لي دار الله فيّ ) وهذا بهتان بيّن على الله ما أنزل به من سلطان، { قل هو من عند أنفسكم }
لأن الله جبل الإنسان على الفطرة الموجبة، النقية السويّة، وفي تعريف الفطرة كما ورد
بكتاب 'بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار' للشيخ عبد الرحمان ناصر السعدي رحمه الله
" الفطرة: هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها وجعلهم مفطورين عليها وعلى محبة
الخير وإيثاره وكراهية الشر ودفعه، وفَطَرَهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله
والتقرب إليه "، تلك هي {فطرة الله التي فطر الناس الله} ، لكن ما الذي يحصل ؟
الذي يحصل ، هو أن الإنسان في رحلة حياته قد يتأثر بالبيئة ، وبواعث الضلال فيخالف
فطرته ويُخلِقها بتخلّق ما يَشينها ويدنّسها "كَيوسخها بهاد المعنى"، كما يمكنه في المقابل بالكسب والتمرّن أن يزدان
جمالاً بتخلّق المزيد من الأخلاق الحسنة ، والخصال المحمودة .
فلا غرو إن قلنا بأن المسألة مسألة اختيار محض ، أعطي مثالا ملموسا سيرسخ صورة الفطرة والطبع والتطبع ؛ أهدي لشخصين في يوم من الأيام ثوب مخملي نادر، رفيع المستوى، أبيضا ناصعا، ثمينا، ليحضرا به مناسبة مهمة منتظرة في أمد محدد . الأول ذواق، فضل إضفاء عليه حلاوة إضافية تليق بفخامته، برشمة أنيقة يطبعها على خامته، واختار لها ألوانا زاهية لطرزها، ثم فصله كساء راقيا جديرا بمقامه الوقور، فكانت الشكل النهائي من أروع ما يكون.. ومن شدة ألقه ، أخده وطيّبه جيدا، فحفظه في مكان مكنون ، وظل حريصا على بقائه في الحفظ والوصون، يتفقده مرة بعد مرة، وينفض عنه العوالق والأتربة التي لصقت به ، ويزيد له تحسينات تجدد بهاءه..
بينما الآخر
أخد الهدية ، فتحها ثم وضعها كما قدّمت له في موضع مكشوف ، ثم نسي أمرها تماما. لم يكن
يقصد إهمالها ؟ بيد أن الملهيات فعلت أفاعيلها، فبقيت الهدية عرضة لكل العوارض التي تخطر
على البال، حتى طبع الثوب، وتغيّرت حاله، وغلب الدنس نقاءه، ففقد ميزة النضارة والطهارة
اللتين كانتا أصله وطبيعته . فهل بعد هذا سيستوي الثوب الثاني مع الأول قيمة وحالا
؟ وهل يمكن إعادته كما كان وإزالة الوسخ والدرن عليه ؟
ارى ان الوضع يتوقف
على صلابة الشخص، وإرادته في التنقية والتزكية..
ربما يخطر التساؤل عن علاقة الثوب والشخصين والمناسبة بالموضوع المتدارس؟ الثوب هو الفطرة يا أحبتي التي خلقت معنا ببعدها
المادي والروحي، والمناسبة هي لقاء الله تعالى الموعود ، الوقفة التي تنتظرنا وحري
بنا أن نستعد لها ، ونحن على مقربة منها وندنوا اكثر
مع غروب كل يوم. أما الشخوص فهي أنا وأنت وكل إنسان عاقل يأخد الحذر فيما
يطبع أو يتطبع في خلقه شعوريا ولا شعوريا، فيحسنه أو يشينه . أرجو أن أكون وُفقت في
طرح المثل، ووصل المعنى .
حصيلة الموضوع، إن
الفضائل إن لم تكن بالطبع والسجية فهي قابلة لأن تصبح سمة لازمة بالتعلم والتمرن والتكلف الإرادي، فالطباع الجميلة تكتسب بشكل اختياري، و تتأتى بالتدريب والمزاولة،
حتى تَنقل من حال الى حال، وتغيّر العادات الطبائع، كما قال ابن القيم في عدة
الصابرين " “المزاولات تعطي الملكات ،
ومعنى هذا أن من زاول شيئا واعتاده وتمرن عليه صار ملكة له وسجية وطبيعة" {إنما الحلم بالتحلم وإنما العلم بالتعلم } كما
قال الصادق المصوق صلى الله عليه وسلم، تأملوا معي المصطلحات' بالتعلّم '
'بالتحلّم' التضعيف دلالة على التكلف والمشقة في التفعيل ... لأن التطبع بالسجايا
الجميلة وتغيير الطباع مهمة ليست سهلة البتة، وستحتاج وقتاً بدون شك ، لكنها مهمة
ليست مستحيلة ، يلزمنا فيها نية صادقة، مع بذل الجهد والمداومة وعدم الاستسلام أمام
انتكاسة الإنتقال والتغيير .
المهمة كما
يقول بن القيم تتطلّب صبر وتصبر واصطبار ومصابرة، أربع مقامات تراتبية يتمايز فيها
الناس ، يوضح لنا الفرق بينهم "بحسب حال العبد في نفسه وحاله مع غيره فإن حبس
نفسه ومنعها عن إجابة داعي ما لا يحسن إن كان خلقا له وملكة سمي صبرا وإن كان بتكلف
وتمرن وتجرع لمرارته سمي تصبرا كما يدل عليه هذا البناء لغة فإنه موضوع للتكلف كالتحلم
والتشجع والتكرم والتحمل ونحوها وإذا تكلفه العبد واستدعاه صار سجية له" .
بسط الكلام في
هذا المقام يطول، وحسبي إيصال المغزى بايجاز البيان، وإزالة اللبس الحاصل في كثير
من الأذهان، وأذكر بقول الله تعالى "فاستقيموا إليه
واستغفروه" وبأمره عز وجل لرسوله ولنا " فاستقم كما أمرت ومن تاب معك
ولا تطغو" ..
وقبل الختام ، أريد
أن نعقد العزم على التغيير بنية "وعجلت إليك ربي لترضى" وصدقا أقولها، إن
الدنيا مجرد لباس مستعار، دَني وقصير مهما بلغ ، زخرفته سريعة الفناء ، عاجلة الإنقضاء
، ومتروك لا محالة ؛ إما برحيله عنا الى غيرنا أو برحيلنا عنه إلى مقرنا في الجنة
برحمة الله - اللهم اجعلنا ممن قيل لهم { أدخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم
من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وماهم منها بمخرجين}. بالله عليك
، ألا يشعرك هذا الكلام بالشوق والحنين للجنة منزلنا الأصلي ؟ لقد جئنا في رحلة قصيرة وسنعود
إلى ديارنا سريعا ..
مرورك هنا لم يكن عبثا – ليس صدفة كيف كيقولو – لعل ما تقرأه رسالة من روحي لروحك السمحة الشفيفة، لأني ممّن تألموا فتعلموا ، و الإنسان عندما يُلسع بحرِّ الدنيا يتكلم بلسان الحال ، ويعزّ عليه منظر متعب يحمل هم الدنيا على كتفيه، ومنظر من يعيش حياة ضحلة ، ويتمنى لو تُفتح نافذة بصيرته فيبصر بعين مكشوفة ، لربما لو فعل ذلك لتعجب مثلي وقال ؛ كيف النسيان في مرحلة عبور ... ! على ما المرارة التي يشكو منها البشر ! ؟ لم الأحقاد في الصدور ، والتنازع والتنافس على شفير قبور ؟
فإلى كم ذا التراخي
والتمادي؟ *** وحادي الموت بالأرواح حادي..
إن أقساط العمر،
والطريق إليها لا مفرّ فلنبادر اليوم بتجديد النية مع الله والرجوع للفطرة، لنتخلص
من لوثة الطبائع الرديئة التي تشدنا إلى أسفل ، وتحول دون إلتحاقنا بمدارج
السالكين لمرضاة الله . لنتخلق بأخلاق القرآن ، ونتحدى النفس الأمارة والظروف
والأعذار، وناخذ بيد بعضنا وكل عضوة ايضا في جلسة تحدي تعين الأخرى، وتعينها في التغيير مع الله ومع
ذواتنا ..
دمتم بسلام ووئام - مليكة
تسعدني زيارتك كما يسعدني رأيك بالموضوع مؤيدا كان أو معارضا، فإن كانت لديك ملاحظة أو انتقاد فلا تتردد.. أكتب تعليقك هنا أو ملاحظتك وسأرد عليها بعون الله...